هل تحتاج العولمة إلى استقرار مهيمن؟
كشفت أزمة الرهن العقاري الأمريكي وما تبعها، درجة الارتباط والتشابك التي بلغها العالم، فلم تعد أية دولة بمنأى ما يحدث خارج إقليمها. وكشفت أن سرعة التغيير في البيئة الدولية أكبر من أن تدركه الحكومات في حينها.
كما بيّنت هذه الأزمة عمق الارتباط القائم بين أمريكا والاقتصاد العالمي، فحتى الدول التي تهتفت بسقوط أمريكا، تجد نفسها بشكل أو بآخر معنية بما يحدث في بورصة وول ستريت. وينسب إلى المؤرخ الاقتصادي الأمريكي تشارلز كيندلبيرغر، الذي كان مع المجموعة الضيّقة التي فكرت ووضعت مشروع مارشال لإنقاذ أوروبا بعد الحرب العالمية، وضع نظرية الاستقرار المهيمن، التي يقول عنها الاقتصادي جون غاربليث إنها أكثر النظريات إقناعا في تفسير أزمة 1929، ففي كتابه: العالم في فترة الكساد 1929ـ 1939، والذي نشره عام 1973، شرح مرحلة الكساد الأكبر الذي ظهر عام 1929، حيث ألقى باللوم على تردد الولايات المتحدة في تولي قيادة الاقتصاد العالمي، عندما تراجعت المكانة المالية والسياسية لبريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى. ويخلص إلى أن استقرار الاقتصاد العالمي يتطلب وجود دولة قوية ماليا وسياسيا تتولى تثبيته، وأن النظام الاقتصادي ليس منظما بذاته، بل إن القوة المالية المهيمنة تعمل على تكييف وربط التعاملات التجارية. إن الزعامة الأمريكية تولدت من الحاجة إلى ضمان هيكل مؤسسي لتنظيم التعاملات التجارية، وأن الولايات المتحدة الأمريكية تصرّفت كنوع بديل عن حكومة عالمية في المجال التجاري والمالي. ولذلك عاد الاستقرار والثقة في مجال التعاملات التجارية.
ولكن الزعامة الأمريكية، حتى من وجهة نظر تشارلز كيندلبيرغر، تحمل في طياتها ظروف انهيارها، لأن المحافظة على الاستقرار المهيمن يفترض حفاظ أمريكا على هذا الدور، دون السعي إلى التدابير الخلاّقة التي بوسعها تقويض قواعد النظام، في الوقت الذي يبحث فيه الآخرون عن الاستفادة بأقصى ما يمكن من هذا النظام دون التقيّد بكل قواعده كما تفعل الصين، وبالتدريج يتآكل الأساس المادي الذي يقوم على أساسه نظام الاستقرار المهيمن.
وتضيف عوامل أخرى كتضارب المواقف السياسية إزاء قضايا إيديولوجية واقتصادية وثقافية، فتزداد عوامل ارتباك وتراجع في ''شرعية'' هيمنة المؤسسات المالية والتجارية الأمريكية.
وتصل حركة الاضطراب إلى مستويات أدنى، إلى التنظيمات الحزبية والنقابات والحركات الإيديولوجية والأصولية على تفرعاتها وتشكيلاتها، قصد تغيير السياسات والقيادات. ولكن حكومات العالم كلها، الصديقة وغير الصديقة لأمريكا، انتظرت الحل الأمريكي، واتبعت نفس الوصفة الأمريكية لحماية البنوك من الانهيار، لتؤكد حقيقة أن العولمة ما تزال تستند على هيمنة أمريكية.