[ محرقة” الفرنسيين في إينيكر
ليس أبلغ من قول سكان المناطق الواقعة أو المحاذية جغرافيا لجبل تاوريرت،
بأنهم لم يروا خيرا منـذ وقوع ”القنبلة”، الربيع ذهب، والناقة تصاب
بالإجهاض، أو فقدان سخاء ضرعها بالحليب أسابيع قليلة إن نجحت في الولادة،
وتراجع عمر الإبل من حوالي 30 سنة إلى أقل من 20 سنة، فقدان البصر والسمع
والأمراض التنفسية· ويكفي ما قرره أحد الأطباء، أثناء فترة عمله بالمركز
الصحي لعين أمفل، حسب أحد زملائه، بتأجيل زواجه إلـى غاية مغادرته لهذا
المركز الذي يقع على بعد 20 كلم من مكان التفجيرات· والسبب، خوفه مما كان
يلاحظه على مرضاه من أعراض غريبة، منها ظاهرة صعوبة تخثر الدم عند الجرحى،
رغم أن مناخ المنطقة الجاف، يعتبر نظريا عاملا مسهلا لالتئام الجروح· كما
لوحظت حساسية مفرطة عند الأطفال بعد إجراء بعض التلقيحات مما جعل العديد
من الأولياء يتحاشونها، أو لا يتمّون الرزنامات لأطفالهم· وغالبا ما تلاحظ
مضاعفات عقب تلقي المرضى لجرعات أو حقن المضادات الحيوية، كما لوحظت ظاهرة
التشوهات الخلقية لدى المواليد الجدد، كصغر حجم الجمجمة أو ما يصطلح عليه
طبيا ”ميكرو سيفالي” أو تضخمها ”ماكرو سيفالي”·
وحسب أحد أقدم أطباء القطاع الصحي رفض أن نذكره بالاسم، لكون شهادته تبقى
ملاحظات في حاجة إلى إقرار مخبري، ظاهرة الوفاة دون أعراض مرضيـة معروفة
عياديا، وكثرة الحساسية الجلدية عند السكان المحليين، وهو ما يفسره أيضا
الاعتياد على التيمم للصلاة رغم توفر الماء، إذ يردون على قولك لهم بأنه
شرعيا لا يجوز التيمم إذا حضر الماء، بأن الماء يسبب لهم أضرارا منهـا
تشقق البشرة وتفتق أصابع اليد والرجل والأماكن المفصلية من الجسد·
ضحايا في الظل وآخرون في الاحتمال
ما عند من كانوا يعملون بمكان التجارب، فدليل الإصابة بيّن على تدهور صحتهـم؛
فرغم تضخم شكل أجساد بعضهم، إلا أن عظامهم تتميز بهشاشة مريبة، تنعكس على
طريقتهم في المشي ببطـء وصعوبة الوقوف والجلوس ”معظم المصابين بأمراض
الأسنان واللثة، ليست لديهم أية آثار لتسوس الأسنـان، إنما الغريب، أن
أسنانهم تسقط دون سبب معروف·· وحدث مرات أن نزعت أسنانا باستخدام أصابعـي
فقـط، ودون اللجوء إلى أية أداة· وقد شككت أول الأمر في الماء أو أية
عوامل بيئية أخرى” يقول طبيب أسنان أثناء لقائنا بعيادته بحي موفلون جنوب
مدينة تمنراست· ”كانوا زهاء أربعة آلاف عامل يدوي في الأعمال الشاقة، في
حفر الأنفاق أو تطهيرها من مخلفات الانهيارات الناجمة عن الانفجارات
المنفّذة إعدادا للتفجيرات اللاّحقة· قبيل كل عملية تفجير يتم إبعادنا،
إما إلى قاعدة تكّورمياس العسكرية بعين أمفل، أو إلى مناطق مجاورة
للاحتماء بتضاريسها مثل هيرافوك، ثم يعيدوننا إلى تاوريرت مكان التجارب
بعد فترة تتراوح من يومين إلى أسبوع لمواصلة العمل· هم كانوا يلبسون بذلات
مقنّعة رمادية لامعة، أما نحن فألبستنا عادية· كما كانوا يعزلوننا في مخيم
خاص بالقرب من قاعـدة تكّورمياس العسكرية، حفاظا على أسرارهم· وكان أسوأ
يوم، عندما خرجت قنبلة من النفق السادس، أمام دهشة الفرنسيين أنفسهم،
وهرعوا إلى الحوامات والمركبات التي نقلتهم إلى أسكرم، وفررنا بدورنا، مع
تصاعد سحابة تشبه الفطر واتجهت سريعا نحو منطقة مرتوتك على بعد 70 كلم من
تاوريرت· ويومها سمعنا بوفاة 13 ضحية من توارف قبيلة إسقمارن التي كانت
تخيم رفقة ماشيتها بالمكان، ومن ثم انتشر المرض·
كما عثر الرحّل على عدة حيوانات برية ميتة بالقرب من آبار المياه، خاصة على
امتداد وادي عين أمفل”·· هي شهادة للسيد ”الداوي إبّه” وقد وجدناه مقعدا
ببيته بحي موفلون جنوب مدينة تمنراست، بفعل فقدانه المتقدم لبصره وسمعه،
وهو الذي كان يوما مشرفا على إيصال اليد العاملة إلـى موقع التجارب من
تمنراست· لم تكن أجرتهم تتعدى 500 فرنك فرنسي شهريا· كان العمل على مدار
ساعات اليوم، بنظام التناوب ومسابقة الزمن، إذ لم يكن أي اهتمام بالشروط
الواجب احترامها عند كل تفجير، ومنها الشروط المناخية· بدليل أن ثماني
تجارب بمجموع قوة وصلت 234 كيلوطن من المتفجرات، أي 60 بالمئة من مجموع
قوة تفجيرات تاوريرت، نفذها النوويون الفرنسيون بين شهري فيفري وجوان،
فترة هبوب الرياح الرملية بالأهفار، وهو ما تؤكده مدونات محطة الأرصاد
الجوية بتمنراست في إفادتها لنا بالتفاصيل المناخية لكل يوم أجريت فيه
التجارب؛ حيث كانت قوة الرياح في خمسة مواعيد لتلك التفجيرات النووية من
المواعيد الثمانية التي نفذت فيها بين فيفري وجوان، تتجاوز 10 عقد، بل
بلغت 14 عقدة يوم تفجير القنبلة الأقوى المسماة ”سافير/ياقوت أزرق” بتاريخ
27 ـ 02 ـ ,1965 الحاملة للرقم التسلسلي ,13 والتي بلغت قوتها 127 كيلوطن،
أي ثلث قـوة التفجيرات السبع عشرة المجراة بالجبل الشبح تاوريرت، وقوتها
تلك جعلتها تفلت من داخل النفق المعد لها البالغ طوله 785 م، محولة محيط
مدخله إلى كتلة متزجّجة من صهير صخر الغرانيت المعروف بشدة صلابته، ناهيك
عن قذف حممه إلى أبعاد مختلفة بالجهة الشرقية لمحيط جبل تاوريرت لا تزال
أصدق شاهد على قوة هذا الجحيم، ومصدرا متواصلا لانبعاث الإشعاعات المدمرة
لأي شيء حي· حتى الأشجار أصيبت بالعقم كانت تشتهر منطقة تافدست التي يعتبر جبل تاوريرت أحد أهم تضاريسها، بوفرة
ثرواتها النباتيـة والحيوانية، واحتفظت لها على مر السنين وتعاقب أجيال
التوارف، بدورة إيكولوجية وسلسلة غذائية متوازنتين، إلى غاية حلول
الكارثة؛ فتزلزل ظاهر الأرض كما باطنها، الجيوب المائية انحدرت إلى
الأعماق وهي في حاجة إلى بحث هيدروجيولوجي جاد لمعرفة درجة تلوث مياهها
ووجهة حركتها، والعائلات النباتية لوحظت عليها أعراض العقم كحال زيتون
الأهفار، وشجيرات الفستق البري، وكلاهما لم يتكاثر منذ أكثر من أربع
عشريات، حسب باحـث سابق بديوان حظيرة الأهفار الوطنية، الذي لم يتوان في
ربط الظاهرة بالإصابة بالفعل النووي؛ إذ أن الغطاء النباتي لمنطقة الأهفار
يطغى عليه طابع الهشاشة· وتم تفسير عقم شجرتي الزيتون والفستق، بحدوث
تحولات جينية في غلاف بذرتيهما، مما جعله أكثر سمكا، ومنه عدم قدرة الأجنة
على فتق هذه الغلاف وفق درجة الرطوبة المعهودة، مما يؤدي إلى أفول النويات
في باطن البذور· وتكون الإصابة بالإشعاع النووي قد تعممت على مر السنين
الماضية، بين العائلات النباتية من خلال نقل الرياح لحبوب الطلع من أزهار
النباتات المصابة بموقع التجارب وما جاوره، إلى عموم منطقة الأهفار، ولم
لا إلى كل التراب الوطني، بفعل الرياح الرملية والموسمية
جريدة الخبر الجزائرية 2006-11-20
مبعوث ”الخبر” إلى تمنراست: صالح سواعدي