.
كيف تزيد الهجرة الداخلية من
تعقيد الاختلالات الهيكلية بين الريف والمدينة
الهجرة من الريف إلى المدينة تمثل ظاهرة للتخلف في ظروفنا الراهنة، كيف؟
* الهجرة الزائدة وبال على المدن والريف
لوقت ليس بالبعيد كانت الهجرة من الريف إلى المدينة امراً محموداً في ادبيات التنمية الاقتصادية. فالهجرة الداخلية كان يتم اعتبارها عملية طبيعية لسحب، تدريجياً قوة العمل الفائقة من القطاع الريفي إلى حيث الحاجة اليه في مصانع المدن. وهذا امر لابد منه في مجال التنمية الصناعية. وبما ان الموارد البشرية تنتقل من اماكن يكاد فيها الانتاج الاجتماعي الحدي صفراً إلى اماكن فيها الانتاج الاجتماعي الحدي ليس فقط ايجابياً، بل ينمو سريعاً كنتيجة لتراكم رأس المال والتقدم التكنولوجي. هذا التحول الهيكلي عملية مفيدة اجتماعياً واقتصادياً.
- مقابل وجهة النظر هذه، اتضح الان بما فيه الكفاية ان معدلات هذه الهجرة من الريف تفوق بشكل متصاعد ومستمر قدرة الصناعة والخدمات الاجتماعية في استيعابها في المدينة. لم يعد الاقتصاديون يعتقدون بان هذه الهجرة عملية مفيدة في حل مشاكل طلب متزايد على الايدي العاملة في الصناعات الحضرية. على العكس، لابد من النظر لهذه الهجرة على انها عامل يزيد من تعقيد ظاهرة فائض قوة العمل في المدن وتفاقم قضية البطالة فيها.
- تزيد الهجرة من الاختلالات الهيكلية بين الريف والمدينة من ناحيتين. أولاً، من جانب العرض. تزيد الهجرة الداخلية بشكل غير متوازن، عدد الباحثين عن عمل بنسبة اكبر من نسبة الازدياد الطبيعي للسكان في المدن التي هي نفسها تعاني ازدياداً عالياً بمستويات غير مسبوقة. هذه الاعداد الريفية الوافدة تزيد من فائض العرض في المدينة. وتتسبب في اضمحلال رأس مال بشرى كبير في الريف. ثانياً من جانب الطلب اخ خلق فرص عمل في المدينة اكثر صعوبة وتكلفة في تحقيقه من خلق فرص عمل في الريف، وذلك للحاجة إلى مدخلات مكملة تكلف كثيراً في معظم امكنة العمل في القطاع الصناعي بالإضافة إلى ذلك، ان الضغوط الارتفاع مستوى الاجور وقيمة الفوائد الجانبية في المدينة، مع عدم وجود تكنولوجيات كثيفة العمل، يعني ان الارتفاع في مستوى الانتاج الصناعي لابد ان يأتي من الارتفاع في مستوى الانتاجية، والا تدهور مستوى القيمة المضافة في القطاع الحديث. ان الزيادة في العرض السريع لقوة العمل والطلب المتراخي عليها في المدينة يتجهان معاً لتحويل اختلالات قوة العمل من مشكلة ذات طابع قصير الأجل إلى اخرى ذات طابع طويل الاجل، مزمنة، في فائض قوة عمل متزايدة في المدينة.
- ان أثر الهجرة على عملية التنمية اكبر من مجرد نتائجه السلبية الواضحة في درجة البطالة الكاملة او الجزئية في المدن. ان اهمية ظاهرة الهجرة، في كثير من بلدان العالم الثالث، لا تكمن بالضرورة في الظاهرة نفسها، ولا حتى في اثرها في التخصيص (التحريك) القطاعي للموارد البشرية، بل ان اهميتها (الهجرة) تكمن في تداعياتها على النحو الاقتصادي بشكل عام وعلى نوعية هذا النمو، على الاخص في جوانبه التوزيعية.
* السياسات الاقتصادية الكلية واثرها في الهجرة
ب) علينا ان نقرر منذ البداية، ان الهجرة الزائدة عن فرص العمل في المدينة تمثل ظاهرة للتخلف وفي نفس الوقت مساهماً فيه. ان فهم الأسباب والمحددات ونتائج الهجرة الداخلية لقوة العمل من الريف إلى المدينة، امر مركزي ومحوري لفهم طبيعة العملية التنموية وبالتالي لصياغة السياسات التي توجه هذه العملية في طرق مرغوب فيها اجتماعياً. هذه خطوة بسيطة ولكنها اساسية في اتجاه تأكيد ان مركزية ظاهرة هذه الهجرة تتمثل في الاقتناع بأن كل سياسة اقتصادية/ اجتماعية تؤثر في المدينة والريف سوف تؤثر بطريق مباشر او غير مباشر على عملية الهجرة. هذه العملية، بدورها، سوف تتجه نحو تغيير نسق النشاط القطاعي والجغرافي/ الاقتصادي، توزيع الداخل وحتى النمو السكاني، وبما ان كل السياسات الاقتصادية لها تأثير مباشر وغير مباشر على مستوى ونمو الدخل في المدينة او الريف او الاثنين معاً، سوف يكون لها ميل للتأثير على طبيعة وحجم تدفق الهجرة. على الرغم من ان بعض السياسات لها تأثير مباشر وفوري (مثلاً- سياسات الاجور والدخل، برامج تنمية العمالة) هناك سياسات اخرى كثيرة، على الرغم من عدم وضوحها، قد تكون، في المدى البعيد لا تقل اهمية.
مثل هذه السياسات تشمل، مثلاً، نظم العلاقات في الأرض الزراعية، تسعير السلع، تخصيص القروض، الضرائب، تنمية الصادرات، الاتجاه او الموقف من الاستثمار الاجنبي، سياسة احلال الواردات، السياسات التجارية وسعر الصرف، التوزيع الجغرافي للخدمات الاجتماعية، طبيعة برامج استثمارات القطاع العام، تنظيم برامج السكان وتخطيط الأسرة، هيكل ومحتوى واتجاه النظام التعليمي، اداء سوق العمل، طبيعة سياسات الحكومة حيال استيراد التكنولوجيا الاماكن الجغرافية للصناعات الجديدة.
هكذا، هناك حاجة واضحة للاعتراف بالأهمية المركزية للهجرة الداخلية (والعالمية ايضا لبلدان كثيرة). وذلك ليتم تكامل العلاقة الثنائية بين الهجرة وتوزيع السكان من ناحية والمتغيرات الاقتصادية من ناحية اخرى، داخل اطار اكثر شمولاً من اجل تحسين صياغة السياسة التنموية.
علينا ان نعرف ايضا وبشكل افضل، ليس فقط لماذا يهاجر الناس وما هي العوامل الاكثر اهمية في عملية اتخاذ قرارهم، بل ايضا ما هي آثار نتائج الهجرة على التنمية الاقتصادية/ الاجتماعية في المدينة والريف. واذا كانت كل سياسات التنمية تؤثر على الهجرة وتتأثر بها، فما هي التأثيرات الأكثر أهمية، ولماذا؟ ما هي الخيارات والبدائل بين الأهداف المختلفة والمتنافسة احياناً (وقف الهجرة الداخلية او توسيع فرص التعليم في المناطق الريفية، مثلا؟).