علمه وثقافته على شعره
يُظهر ديوان المتنبي فيضًا من المعارف المتنوعة المشارب. فشعره يبين عن شاعر عالم ومثقف ولكنه لم يكن ممن يتعمدون إثقال الشعر بهذه المعارف التي تُخرج الشعر عن عفو الخاطر ولمحات الإحساس. فالمتنبي كان كثير الدرس والاطلاع، شهر بارتياده دكاكين الوراقين وملازمته لها. كما لازم أشهر علماء عصره من اللغويين والأدباء كالزجَّاج وابن السرَّاج والأخفش الأصغر وابن دُريد وأبي علي الفارسي وجلس إلى نفطويه وابن درستويه. وأخذ عنهم جميعًا. وكان بجانب حفظه القرآن الكريم، قد أفاد فصاحة ولسنًا حين شافه الأعراب وجالسهم في البادية. وقد تنوعت ثقافته وشملت المجالات الآتية:
اللغة. كان المتنبي مبرزًا في مجال اللغة، مكثرًا في نقلها، مطلعًا على غريبها وحوشيها. وأكثر استشهاده بكلام العرب نظمًا ونثرًا. قرأ عليه ابن العميد كتابه الذي جمعه في اللغة وكان يعجب من حفظه وغزير علمه. كما قرأ عليه أهل مصر كتاب المقصور والممدود لأبي العباس ابن ولاد فصححه وأخذ على مؤلفه بعض الغلطات. قيل إن كتبه بعد موته كانت تحمل ملاحظات نفيسة دونها بيده. وكان حريصًا على حمل مكتبته في أسفاره.
ثقافته الدينية والفلسفية. كان القرن الرابع الهجري قرنًا ثريًا بالمذاهب الفكرية ذات الدلالات الفلسفية. فهو عصر السنة والشيعة والقرامطة والمعتزلة والمرجئة. وتأثر المتنبي بالفلسفة ظاهر في شعره، وهي فلسفة تنم عن طول تفكير وعمق رؤية جعلت الحكمة من أغراض شعره المقدمة. وقد ألف الحاتمي رسالة أبان فيها ما أخذه المتنبي من أقوال أرسطو. ويظهر شعر المتنبي أثر قراءته في الفلسفة واتصاله بأساليبها مما ترك سماته في تقسيمه المنطقي لأجزاء الكلام وفي توليده للمعاني وإشاراته إلى ما يتصل بآراء الفلاسفة من غير العرب.
معرفته التاريخية. يعكس ديوان المتنبي صورة للأوضاع التاريخية والصراعات السياسية التي كانت دائرة في عصره. فيفسر الديوان كثيرًا من أحوال الحمدانيين وحروبهم مع الروم وحمايتهم للثغور كما يشير إلى مواقع ومعارك وأحلاف وعداوات تنقلت بين الشام والعراق ومصر. ويظهر شعره جانبًا من تقلب الحياة في القرن الرابع الهجري بفعل الولاءات السياسية والتزام الناس تارة وتحللهم من الالتزام أخرى.
معارفه الجغرافية. كان لرحلات المتنبي أثر بالغ على شعره وشخصيته معًا. فيظهر شعره سياحته بعد خروجه من بغداد متجولا: تارة في شمال سوريا وطرابلس واللاذقية وأخرى حالاً بمصر أو ماضيًا إلى بلاد مابين النهرين. كان لهذه الرحلات أثر قوي في معرفته بجغرافيا الأماكن التي حل بها حين يجتاز الصحاري أو يعبر الجبال مستهديا بالأنواء والنجوم والجبال. وقد يسلك طرقًا لا يدركها سواه؛ طرقًا تدل على حسن معرفته بمجاهل الأرض ومعالمها. أدى كل ذلك إلى رفد شعره بعدد غير قليل من الأسماء والمواضع والأماكن ذات الدلالات الجغرافية لمختلف الأماكن التي طوَّف بها.
معرفته بالقرآن. يعكس شعر المتنبي شدة تأثره بالقرآن الكريم: قوَّم القرآن لسانه كما استولى إعجازه على عقله. فتفتَّحت مواهبه الفنية في شعر هو نسيج وحده. انفعل المتنبي ببلاغة القرآن وروعة معانيه وجمال قصصه وبديع استعاراته. ويبدو هذا التأثر أوضح ما يكون في شعره حين يستوحي تارة القصص وأخرى المعاني وثالثة الاستعارات.
رحلاته
خرج المتنبي من السجن في حمص بعد أن عرف جور الزمان وكيد الأعداء. فلحق بالتنوخيين في اللاذقية وأقام عندهم حينًا من الزمان. وتوثقت صلته بأبناء إسحاق التنوخي محمد والحسين ونظم فيهما قصائد من أجمل شعره.
ارتحل بعد ذلك إلى الكوفة وأمضى زمنًا يشتغل بالعلم، راغبًا عن مدح الناس أو التعرض بشعره لأحداث تلك الفترة. ثم خرج في 326هـ من الكوفة ـ ولا نعلم سبب خروجه ـ متوجهًا إلى الشام للمرة الثانية، وبدا في هذا الطور من حياته شديد التأثر بحال الأمة العربية بعد أن ملك زمامها الموالي من الترك والديلم. وخرج من اللاذقية إلى طبرية وعاد إلى اللاذقية مرة أخرى. ثم ارتحل منها إلى حلب ومنها إلى أنطاكية قاصدًا المغيث بن علي بن بشر العجلي. كما مدح عددًا من وجوه القوم بها. ولكنه مل المقام فخرج إلى حمص ولبنان.
استقر في عام 328هـ في رحاب بدر بن عمار. وكان بدر عربيًا حلو الشمائل فوجد المتنبي في بلاطه شيئًا من الاستقرار، فابتهجت نفسه وتجدد أمله. يقول:
أحلماً نرى أم زمانًا جديدًا أم الخلق في شخص حيّ أعيدا
تجلى لنا فأضأنا به كأنا نجوم لقين سعودا
ورأى في بدر الأمير كل الأمير، والجود كل الجود، وكان شديد الإعجاب به وظل في حضرته حتى سنة 333هـ. وبادله بدر حبًا بحب فتفتحت شاعريته وكتب لاميته في وصف الأسد التي مدح فيها بدرًا. وتعد من عيون شعره:
أَمعفِّر اللَّيث الهزبر بسوطه لمن ادَّخرت الصارم المصقولا
ولكن المقام لم يطب له كل المطاب؛ فأعداؤه وحساده سعوا لإفساد ما بينه وبين أميره، وأغروا به الشعراء ليكيدوه بألسنتهم، وبدأ الأمير ينصرف شيئًا فشيئًا عنه بعد أن كان المقدم لديه. ولعل اعتداد المتنبي بذاته وعدم تمرسه بحياة القصور ودسائسها كان مما وسع الشقة بينه وبين أميره. فخرج من بلاط بدر قاصدًا دمشق ونزل بجبل جرش عند أبي الحسن علي بن أحمد الخراساني وكانت بينهما مودة واستظل بحماه ومدحه بقصيدة قال فيها:
لا افتخار إلا لمن لا يضام مدرك أو محارب لا ينام
وخرج قاصدًا أنطاكية عام 334هـ وبها أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن محمد الخصيبي. ووصله في هذه الفترة كتاب من جدته تسأله السير إليها وتبثه شوقها، فقصد الكوفة ولكن حيل بينه وبين دخولها. وتوفيت جدته فرثاها بقصيدته المشهورة:
ألا لا أرى الأحداث حمدًا ولا ذمًا فما بطشها جهلاً ولا كفها حلمًا
انحدر المتنبي إلى دمشق، وكان سيف الدولة قد صد الروم واستولى على أكثر الشام. وصار ملء السمع والبصر، وكان أبو العشائر والي سيف الدولة على أنطاكية قد مهد للمتنبي الانتقال إلى بلاط سيف الدولة بحلب. وكان سيف الدولة يحتاج شاعرًا مثل المتنبي على كثرة شعراء بلاطه؛ شاعرًا يصور تلك المرحلة من البطولات التي كانت تعيشها الأمة العربية. فوجد كلٌّ منهما بغيته في صاحبه، فكتب المتنبي أجمل شعره ـ الذي يمثل ديوانًا خاصاً هو سيفيات المتنبي ـ كله أو جله خلال إقامته بالشام. لم يمدح أحدًا غيره خلال هذه الفترة، ولم يبخل الأمير على شاعره ولكن ذات الشاعر القلقة وطموحه الذي لا يُحَدُّ، فضلاً عن أسباب أخرى أسهب الرواة في ذكرها، جعلت المتنبي يشد الرحال من حلب قاصدًا دمشق سنة 346هـ. واتجه إلى الرملة في فلسطين ومدح الأمير ابن طغج عامل كافور الذي زين له الرحلة إلى كافور.
قصد المتنبي مصر مؤملاً أن يجد في حضرة كافور ما لم يجده لدى سيف الدولة. ولكن كافورًا كان سياسيًا داهية وأديبًا بارعًا، فأدرك مقاصد المتنبي وجعله يتأرجح بين اليأس والأمل. وتمثل هذه المرحلة ديوانًا شعريًا عُرف بالكافوريات من أشهره قصيدته التي مطلعها:
عيد بأية حال عدت يا عيد ؟ بما مضى أم لأمر فيك تجديد ؟
وهي آخر قصائده بعد أن يئس مما كان يأمله من كافور. ففر من مصر بعد أن كتب قصيدة الهجاء الخالدة في كافور. واتجه إلى الكوفة ودخلها سنة 351هـ. وشارك في الأحداث التي ألمت بها، وذلك أن رجلاً خارجيًا من بني كلاب ثار بها فقصد إليه أبو الفوارس دلَّير بن لشكروز، فهرب الخارجي قبل وصول القائد إلى الكوفة فمدحه أبو الطيب. وأقام الشاعر أشهرًا بالكوفة ثم خرج إلى بغداد ونزل على صديق له اسمه علي بن حمزة البصري، ولم يمدح أحدًا من أرباب السلطان ببغداد. ثم عاد إلى الكوفة وظل بها إلى سنة 354هـ ثم ارتحل ثانية إلى بغداد. وراسله ابن العميد وكان بأرَّجان، يطلب منه القدوم عليه فقصده المتنبي ومدحه في صفر سنة 354هـ وأقام عنده شهرين أو تزيد قليلا.ً ثم شد الرحال إلى عضد الدولة أثر بشيراز ومدحه، وكان آخر الملوك الذين مدحهم.